اخر الاخبار

الاثنين، 8 سبتمبر 2025

باولو فريري منتقدا مدارس الريادة


 تقوم مدارس الريادة على التلقين السلبي للمعلومات التي تبسط حتى تفقد جزء من حقيقتها وتقدم جاهزة ليحفظها المتعلم من خلال كبسولات تعرض أمامه وعليه خفظها واسترجاعها متى طلب منه ذلك

يقدم المفكر والتربوي البرازيلي باولو فريري، في كتابه المؤثر "تعليم المقهورين" الذي صدر أواخر ستينيات القرن الماضي، نقداً جذرياً لنموذج ما سماه "التعليم البنكي" السائد لأنه يعامل الطالب كوعاء فارغ يُملأ بالمعرفة كالحصّالة تماماً، والذي يشبهه تناما مدارس الريادة في منهجها.

لا تكمن قيمة الكتاب في تقديم "طريقة تدريس" جديدة فحسب، بل في الزاوية التي يقدمها للنظر إلى التعليم بوصفه ممارسة للحرية والتقدم والانفتاح، وليس مجرد أداة للضبط والسيطرة.

ويلاحظ فريري أن أخطر نتيجة لهذا النموذج التعليمي هي تحويل المتعلمين إلى "مقهورين"، حيث ينفصلون عن واقعهم وتُخدَّر قدراتهم الإبداعية، ويصبح الهدف هو استرجاع "الإجابة الصحيحة" بدلاً من بناء الفهم أو تنمية الكفاءة أو تغيير الواقع.

كمقابل، يقترح فريري نموذج "تعليم طرح المشكلات" الذي ينطلق من عالم المتعلمين وتجاربهم الشخصية، محوّلاً الدرس إلى حوار تشاركي لصياغة المعنى، ثم إلى فعل تغييري صغير يعيد ربط المعرفة بالحياة اليومية، لينتقل التعليم من التلقين إلى الوعي، ومن الحفظ إلى الفعل.

يستند فريري في حجته إلى أربع أفكار متسلسلة:

1. تبرير الحاجة لتربية المقهورين: من خلال تحليل علاقة القاهر بالمقهور، مؤكداً أن التحرر لا يُفرض من الأعلى ولا بالنيابة، بل هو عملية مشتركة تحرر كلا الطرفين من أنماط السيطرة والامتثال.
2. نقد التعليم البنكي وتأسيس البديل: حيث يكون المعلم ميسراً شريكاً، والطالب ليس وعاءً سلبيًا بل فاعلاً نشطاً "يقرأ العالم" وهو يتعلم قراءة الكلمات.
3. الحوارية كجوهر للعملية التعليمية: حيث تكون اللغة أداة لفهم العالم وتسميته، وليس مجرد قناة لنقل المعلومات.
4. عرض نموذجين للفعل الثقافي: النموذج "ضد الحواري" القائم على التفريق والتلاعب، والنموذج "الحواري" القائم على التعاون والوحدة والتنظيم.

يرتبط هذا البناء بمفهومين مركزيين عند فريري هما:

· الوعي النقدي: وهو الانتقال من الفهم السطحي للأحداث إلى إدراك العلاقات البنيوية الكامنة وراء الظلم والإقصاء، ثم اتخاذ موقف عملي منها.
· الممارسة (البراكسيس): وهي الحركة الدائبة بين التأمل والعمل؛ حيث نفكر لكي نعمل، ونعمل لكي نعيد التفكير.



ولهذا يصر فريري على أن التعليم هو عمل سياسي (بالمعنى العميق وليس الحزبي)، فهو إما أن يعيد إنتاج علاقات الهيمنة ويصير أداة للطاعة، أو يفتح المجال للفاعلية الإنسانية فيصير أداة للحرية، وهذا يحل اللغز الذي يشير إليه: لماذا يكره الأطفال المدرسة.

كيفية التطبيق: دوائر الثقافة يقترح فريري للتطبيق داخل الصف ما يسمى"دوائر الثقافة"، وهي مجموعات صغيرة (12-25 متعلمًا) مع ميسر. ينطلق اللقاء من "موضوع مولِّد" من واقع المتعلمين (كصورة أو كلمة أو مشهد)، فيتم أولاً تمثيل هذا الواقع، ثم تفكيكه جماعياً عبر الحوار، ثم صياغة خطة فعل صغيرة (مشروع مجتمعي، رسالة...). الفكرة هي تعلم القراءة والكتاحة مع "قراءة العالم"، مما يذوب معه الفصل التقليدي بين المعلم والطالب لصعل علاقة تبادلية حيث الجميع يتعلمون (معلم-طالب / طالب-معلم).

أثرت هذه الرؤية عالمياً في برامج محو الأمية والتنمية المجتمعية، وتبنّتها لاحقاً الجامعات والمدارس تحت مسمى "التربية النقدية".

تأتي جدة طرح فريري من كونه لا يقدم وصفة تقنية، بل يعيد تعريف وظيفة المدرسة جذرياً؛ لتصير فضاءً يتعلم فيه الناس تسمية العالم بأسمائه الحقيقية، وتجربة قدرتهم على تغييره، مما يصالح بين المعرفة والكرامة الإنسانية. فالمعرفة المنفصلة عن الكرامة تصير أداة للطاعة، أما المقرونة بها فتصير بوابة للحرية.

ولهذا يعود كتاب فريري إلى الواجهة دوماً في أوقات أزمات التعليم، ليذكرنا بأن المتعلم ليس رقماً أو وعاءً يُملأ، بل إنساناً يملك صوتاً وخبرةً ورغبةً في الفهم، وأن التعليم الحقيقي هو فعل ثقافي يوقظ الوعي ويكرم الإنسان.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.

Adbox