في يوم من الأيام، تلقيت دعوة لحضور لقاء في إطار مدارس الريادة. لم أكن أعرف ما هي مدارس الريادة، ولكنني سمعت عنها بعض الشيء. قيل لي أنها مدارس تعليمية مبتكرة وحديثة، تهدف إلى تحسين نوعية التعليم وتعزيز مهارات المتعلمين في الرياضيات واللغات، قيل لي أيضا أنها توفر بيئة تعليمية ممتعة ومحفزة، تستخدم اللعب والإيقاعات الزمنية المناسبة والعدة الرقمية الحديثة. بالإضافة إلى ذلك، قيل لي أنها تنمي مهارات المعلمين وتدعمهم بيداغوجيا فعالة ومتابعة صحية وبدنية للطلاب. بعبارة أخرى، قيل لي أنها مدارس العصر الجديد، التي تجيب على جميع تحديات وتطلعات المجتمع.
لقد أثارت اهتمامي هذه الدعوة، وقررت أن أحضر اللقاء، كنت أرغب في معرفة المزيد عن هذه المدارس، ورؤيتها بعيني، وكنت أتوقع أن أجد مدارس رائعة ومدهشة، تفوق توقعاتي. ولكن، هل كان هذا حقا ما وجدته؟
اللقاء
وصلت إلى مكان اللقاء، فوجدت بعض المعلمين والمسؤولين والمفتشين.
كان هناك أستاذ مسؤول عن تنظيم وإدارة اللقاء، قدم نفسه أنه أستاذ جامعي وخبير لدى وزارة التربية الوطنية وغيرها من المنظمات الدولية، ومعه مستشارون في التنمية البشرية، الذين اكتفوا بتسجيل ما يقوله الحاضرون.
كان الأستاذ متحمسا ومبتهجا، ويتحدث بحماس عن مدارس الريادة، قال إنها مشروع وطني ضخم، يهدف إلى إحداث تحول شامل في المنظومة التعليمية، وأنها تحظى بأثر إيجابي بين الأساتذة المنخرطين فيها وأنهم إيجابيون ومتحمسون، بينما غيرهم محبطون ومتشائمون، قال أيضا أنها تعتمد على الانخراط الطوعي للفرق التربوية، وتوفير الظروف المادية والبيداغوجية والتكنولوجية اللازمة، خدمة للتلميذات والتلاميذ.
بعد ذلك، بدأ الأستاذ بطرح الأسئلة على الحضور، لمعرفة آرائهم وانطباعاتهم عن مدارس الريادة، وهنا بدأت المفاجآت!
فقد لاحظت أن الأسئلة التي طرحها الأستاذ كانت موجهة ومحرضة، تذهب إلى إعطاء قيمة حسنة لمدارس الريادة، وخلق انطباع إيجابي لمن لم يشاركوا بعد في هذا المشروع، مثلا، سأل عن فترات الفرح رفقة المتعلمين، وعن التجربة حول مدرسة طارل، وعن اللعب والإيقاعات الزمنية والعدة الرقمية والحافزية والدعم والمنهاج والمحيط الاجتماعي، وفي كل مرة، كان ينتظر إجابات تمدح وتثني على مدارس الريادة، وتبرز مزاياها وفوائدها، وهكذا وزع الكلمة ابتداء على الأساتذة والمؤطرة المنخرطين في تلك التجربة، وكان الأساتذة الحاضرون يتفاعلون مع هذه الأسئلة، ويعبرون عن انطباعاتهم واتجاهاتهم.
لم أكن متفاجئا عندما لاحظت أن معظم هذه الانطباعات كانت متحيزة، ترفع من قيمة مدارس الريادة، وتبخس من العمل في المدارس العادية، عبر ثنائيات قديم/جديد، مرن/جامد، ناجح/فاشل ... فقد كان البعض يقول أنهم سعداء ومبسوطين بالعمل في مدارس الريادة، وأنهم يشعرون بالفخر والاعتزاز بالانتماء إليها، وقد كان البعض الآخر يقول أنهم يرون تحسنا واضحا في مستوى ومهارات تلاميذهم، وأنهم يلاحظون تحولات في مستوى اكتسابهم للمعرفة المدرسية...
ما أثارني أكثر هو اندفاع وتحمس إحدى المفتشات التي بالغت كثيرا في تصوير التجربة على أنها المنقذ والحل السحري لمدرستنا العمومية، وكل ما تدخل متدخل، كانت تجيبه بأن المدرسة الرائدة جاءت لتجاوز المعيقات وتقديم الحلول لكل تساؤلاتنا وانتظاراتنا، وأن على الأستاذ أن يتحلى دائما بالإيجابية والتفاؤل وأن ينخرط في المشروع بتطوع لأن ذلك في صالحه! وأن أي سؤال عن التعويض المادي للأساتذة وغيره هو في غير محله...
كما كان البعض الآخر يقول أنهم يستفيدون من الدعم والتكوين والمتابعة التي تقدمها مدارس الريادة، وأنهم يتعلمون أشياء جديدة ومفيدة من مدارس الريادة، وأنهم يطورون مهاراتهم وقدراتهم في التدريس والتواصل والإبداع، وهذا بالنسبة لهم هو المقابل الذي ربحوه، وقد كان البعض الآخر يقول إنهم يشاركون في أنشطة ومشاريع متنوعة وممتعة مع زملائهم وتلاميذهم، وأنهم يشعرون بالتعاون والتضامن والانتماء.
وفي كل مرة، كان الأستاذ يرد على هذه الانطباعات بالثناء والتشجيع والتأكيد، ويقول أن هذه هي النتائج المرجوة من مدارس الريادة، وأن هذه هي الأدلة على نجاحها وفعاليتها، وكان يضيف أن مدارس الريادة تمثل نموذجا تعليميا متميزا ومتقدما.
وهكذا، كان اللقاء يسير في اتجاه واحد، يمجد ويمدح مدارس الريادة، ويعرضها على أنها حلم تحقق، وعصا سحرية تجيب على جل أسئلتنا وانتظاراتنا، كان لقاء مفعما بالعواطف والأحاسيس أشبه ما يكون بخطاب الإشهار، منه إلى خطاب عقلاني يقدم الحجج والأدلة والأرقام ويسائل المنهجيات والمسلكيات...
ولكن، هل كان هذا حقا هو الواقع؟
هل كانت مدارس الريادة خالية من العيوب والمشاكل والتحديات؟
هل كانت مدارس الريادة مقبولة ومحبوبة من قبل الجميع؟
هل كانت مدارس الريادة متوافقة ومتناسبة مع الواقع والظروف المحلية؟
الحقيقة
لم أكن مقتنعا بما سمعته في اللقاء، ولم أكن مرتاحا بما شاهدته، فقد شعرت أن هناك شيئا ما يخفى عني، وأن هناك جانبا آخر للقصة، لذلك، قررت أن أبحث وأتحقق بنفسي عن حقيقة مدارس الريادة.
وقد فعلت ذلك بطرق مختلفة، سواء من خلال لقاءاتي مع زملائي المشتغلين بتلك المدارس، أو من خلال الكتابات حولها أو من خلال التقويمات والتقارير حول هذه التجربة.
وبعد البحث والتحقق، توصلت إلى استنتاجات مختلفة عما سمعته في اللقاء، فقد اكتشفت أن مدارس الريادة ليست كما يصورها الأستاذ والمتحدثون، وليست كما يتوقعها الناس، بل إن مدارس الريادة هي مشروع معقد ومتناقض ومثير للجدل، يحمل في طياته الكثير من الحقائق والأسرار والمفاجآت، وهذه بعض منها:
_مدارس الريادة ليست مشروعا وطنيا ضخما، بل هي تجربة محدودة ومحصورة، تشمل عددا قليلا من المدارس والمعلمين والطلاب، وتخضع للتقييم والتعديل باستمرار؛
_ مدارس الريادة ليست مشروعا مبتكرا وحديثا، بل هي مشروع مقتبس ومستورد، يعتمد على نماذج ومفاهيم ومناهج وأساليب تعليمية موجودة في دول أخرى، لها ظروفها وبنيتها الاجتماعية الخاصة، وليس نابعا من بيئتنا ولا نتيجة لبحث وتفاوض مع الفاعلين الرئيسيين في مدرستنا، ولا يأخذ في الاعتبار الخصوصية والتنوع والتراث والهوية والثقافة واللغة والقيم والتحديات التي يطرحها واقعنا المجتمعي؛
_ كما أنها حلقة أخرى في مسلسل تفكيك المدرسة العمومية، وأنها يندرج في إطار رؤية البنك الدولي والمؤسسات المالية الدولية، التي تهدف إلى وضع التعليم العمومي في خدمة رأس المال؛
_ إن هذا المشروع يعتمد على آليات تدبيرية مستمدة من القطاع الخاص، مثل ربط الارتقاء المهني بالأداء والتكوين، وتقديم تحفيزات مادية للمؤسسات والمدرسين مقابل الالتزام بأهداف المشروع وعلامته للجودة؛
_ أنها تعتمد على منح مالية وتجهيزات تقنية للمؤسسات والأساتذة، مما قد يؤدي إلى تفاوتات بين المدارس العمومية والخصوصية، وبين المدارس المشاركة في المشروع وغيرها؛
_أنها تركز على التعلمات الأساس في اللغة والرياضيات، مما قد يتنافى مع المقاربة بالكفايات والتعلم النشط، ويتجاهل باقي المواد والمهارات، ولا يبالي بالذكاءات المتعددة وبالتالي لا يعطي للمتعلمين الفرصة في إظهار مؤهلاتهم وإبراز طاقاتهم؛
_ كما أن هذه المقاربة موجهة بشكل خاص للتلاميذ المتعثرين مما يطرح السؤال بالنسبة للتلاميذ المتفوقين ماذا سيكون مصيرهم؟ بل ماذا سيكون مصير مدرستنا العمومية حينما ينخفض مستواها إلى أدنى المراتب؟
_ إنها تفرض على الأساتذة التزامات وشروط إضافية، مثل التكوين المستمر والمصاحبة والتقييم، مما قد يزيد من الضغط والإرهاق عليهم، ويقلل من حرية وإبداعهم؛

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.